القديس انطونيوس البادوي والطاغية " أزيلينو "
..............................................................
أزيلينو دي رومانو ( 1194 ـ 1259 ) ، هذا الطاغية الذي اشتهر بالجور والظلم ، وحبه لسفك الدماء ، والذي كما يقول مؤرخو عصره فاق في قسوته و جبروته قسوة و جبروت نيرون و ديكيوس ودوكلتسيان ،
كان سليل اسرة ألمانية استوطنت ايطاليا الشمالية ، على عهد الامبراطور كونراد ، عام 1137 . فهذا الوحش الضاري ، والانسان الجهنمي ـ كما يصفه احد معاصريه ـ الذي لم يتورع مرة من ان يأمر بقتل
11,000 من البادويين حرقاً ، في مزرعة كبيرة في ضواحي فيرونة ، تُعرف بمزرعة مار جرجس ، استطاع ان يستميل اليه بدهائه الامبراطور فردريك الثاني ، الذي لم يلبث ان قلده ولاية مقاطعة كبيرة بشمال ايطاليا ،
تمتد من جبال الالب الى نهر أوليو . الا انه لما كان يطمح ببصره للاستيلاء على كل شمال ايطاليا ، فقد بدء يغزو الدساكر والقرى والمدن المجاورة له ويضمها الى مقاطعته .حتى اذا بلغ في غزواته مدينة فيرونة الحصينة ،
وجد منها مقاومة شديدة .ولكنه بالرغم من استبسال السكان استطاع ، بعد حصار طويل وسفك الدماء انهاراً ، ان يفتحها عنوة ، في سنة 1225 . على ان هذا الطاغية كان من الشراسة ، وخسة الطبع ، بحيث انه كان اذا
احتل مدينة او قرية يأمر بذبح الصفوة فيها ، ولاسيما الاغنياء واصحاب النفوذ ، ويصادر اموالهم .لم يكتف ازيلينو بكل تلك الفتوحات ، التي لم نذكر منها الا النذر اليسير ، بل شاء في طمعه ان يضم الى املاكه ايضا
جمهورية بادوا الصغيرة .فأخذ من ثمة يزحف الى المدن الصغيرة والقرى و الدساكر التابعة لها ، ينتزع حصونها وقلاعها ويدخلها ظافراً . وكان يعد العدة لمحاصرة بادوا
نفسها والاستيلاء عليها حينما فوجئ وهو ببلدة بسانو ، بالقديس انطونيوس يقتحم عليه مجلسه ،ودون ما مقدمات ، يبادره بهذه اللغة و اللهجة القاسية ،التي ان دلت على شيئ ، فعلى شجاعة القديس ،حريته ،وغيرته الرسولية النارية .
قال له :" ياعدو الله والبشر ، حتام تماديك في الضلال والغواية ؟ ..حتام استخفافك بأناة ربك ، واحتقارك لصبره وطول روحه ؟.." فيا ايها المتمادي في العماية وضروب الغواية ،اما تسمع عويل الارامل وبكاء الايتام ،
الصاعد الى عرش الديان العادل ، والصارخ طالبا الانتقام ، الذي اكاد أرى ضرباته تنقض على رأسك : كفاك يارجل ، ما اهدرت من دماء بريئة .كفاك في الشر والضر توغلا .الا تب واندم على مآثمك ، وارجع وكفر
عن سيئاتك والا فها هي يد الرب القهار القدير قد القيت عليك ،وسيف نقمته المرهف قد سلط على هامتك ." فكر جيدا فيما قلت لك وانذرت ، ولاتنس ان مكيال آثامك قد أمتلأ .واعلم اخيرا ان "الله" يمهل ولايهمل ،
فأرعوِ عن غيك ولاتماطل في الرجوع الى ربك ". كان وقع كلمة انطونيوس هذه على قلب ازيلينو المتحجر وقع الصاعقة ،حتى اذا انتهى القديس من القائها ، قام ازيلينو عن عرشه وحَلٌ منطقته من وسطه ، وشدَ بها رقبته ،
علامة على الندم والخضوع والتذلل ، ثم جثا على ركبتيه امام القديس ،واعداً بتغيير سيرة حياته . قال له :" لقد خطئت ، ياأبتِ ، امام الله وامام كل الخلق اجمعين ، واستحققت بخطاياي الجسيمة كل عقاب وقصاص في الدنيا والآخرة .
ولكني اعزم اليوم، امام الله وامامك على تغيير سيرتي الشريرة ،فصلي انت لاجلي ليغفر الله لي خطاياي ، وامددني دوما بصلاتك المقبولة الفعالة ".والان ، كيف نفسر تذلل سفاح في مثل حجم الطاغية " أزيلينو " ،
هذا الذي سبق وقتل اكثر من 60 راهباً من الرهبانية الفرنسيسكانية وحدها ، أمام راهب بسيط كأنطونيوس ، لايملك من سلاح او عتاد ،غير سلاح كلمة الحق ،وعتاد قداسة السيرة ؟.. ان الجواب على هذا السؤال يقدمه لنا ازيلينو نفسه :
رداً على سؤال رجال بلاطه ،الذين كانوا في دهشة ليس بعدها دهشة مماسمعوا و رأو ـ وكان ذلك لأول مرة في حياتهم ـ راهبا لاحول له ولا طول ،يقف بجرأة ،يقرع بشدة ويوبخ بمرارة سيداًولا كل الاسياد :
ازيلينو الجبار الطاغية ، وهو صامت لا يريم ! ..وتذللا لامثيل له ، من رجل فظ ،اشتهر بقسوته ، وغلاظة قلبه ،وضربه عرض الحائط بكل القيم الخلقية والدينية .قال ازيلينو يرد على سؤال رجاله :" لاتعجبوا ياسادة ،مما فعلت ،
رغم ماسمعت من تقريع وتهديد ووعيد .. فانكم لو عاينتم منه ما عاينت ،وشعرتم امامه بما شعرت ،لتذللتم وتصاغرتم ،مثلما تذللت وتصاغرت .كيف ؟ وانا كنت ابصر، وهو يزجرني ويتهددني من قبل "الله"،نورا خارقا للعادة ينبعث
من وجهه ،يملأ نفسي وجوارحي خوفا ورعدة ؟ ..على انه لو طلب مني في تلك الساعة ان اتنازل عن نصف مملكتي لفعلت ، لا بل لو طلب مني اكثر من ذلك لما ترددت لحظة في اجابة طلبه ".اجل ،
ليس في الدنيا قوة تستطيع ان تفعل في القلوب القاسية ، التي تبدو وكأنها قدت من الجلمود ، ما تفعله كلمة الانسان القديس ، فالقداسة هي السلطة التي لا تعلوها سلطة ، والتي تمد لا الانسان القديس فحسب بل
و " الله " نفسه بسلطانه . وكان من نتيجة ملاقاة القديس انطونيوس لأزيلينو ، ومواجهته الصريحة بجرائمه ، التي تجر اليه اعظم الويلات ،دنيا وآخرة ، ان لم يرعوِ ويتوب ، ان كف ازيلينو ، ولو الى حين ،
عن الاعتداء على حريات الناس وحرمانهم ، كما عقد الصلح مع البادويين ، ورٌدَ اليهم حصن فورته ، الذي كان قد انتزعه ، في تلك السنة ، من آل كمبو سان بيارو . قلت الى حين ، لانه بعد موت القديس ،
عاد الى سيرته القديمة .ورغم ما كان بينه وبين البادويين من معاهدة صلح ، فقد قام سنة 1237 ، بفتح المدينة عنوة ، وذبح من اهلها جمهورا غفيرا ، مصادرا لمصلحته الخاصة اموالهم وممتلكتهم ،
كما اضطهد رجال الاكليروس ، ونهب الكنائس . ولكنه لم يمد يدا آثمة الى ما كان المؤمنون يتبرعون به من اموال وتقادم اخرى نفيسة ، لاتمام مباني كنيسة القديس الكبرى التي كان العمل جاريا فيها
على قدم وساق .مات ازيلينو ميتة هائلة مريعة ، هي ميتة الانسان الجاحد ، الذي لم يعرف حقا لله ولا لأنسان .مات في احدى حروبه ، ضد جمهورية البندقية القوية ، متأثرا بجروبه ، في سنة 1259 .
مات محروما من الكنيسة ، وغير مأسوف عليه من احد . فأنطبق عليه قول الانجيل :
" ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله ، وخسر نفسه .. ام ماذا يعطي الانسان فداء عن نفسه " ( مت 16 : 26 ) .